سنتحدث هنا عن موقف للنبي- صلى الله عليه وسلم- لنرى كيفية تعامله لحلها ووضعه للأسس الصحيحة التي يُحل عليها الخلاف.. ويبقى على الدعاةِ الاستفادة من هذه الأسس وتجذيرها وتأصيلها في النفوس ونشرها، ومن ثمَّ يبقى علينا أن نضع الآلياتِ المناسبة للزمان والمكان ليسمح باحتواء الخلاف وعدم تصعيده.. فالحديث سيكون عن الأسس والثوابت التي اتبعها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في إدارته للخلاف لنتعلم منها ونقتدي بها.
موقف بعض الأنصار من غنائم حنين ووجدهم في أنفسهم من توزيعِ النبي- صلى الله عليه وسلم- وعطاؤه الجزيل لقريش وبعض قبائل العرب وعدم إعطائهم منها، حتى قالوا: إنَّ هذا لهو العجب يُعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
"لما أعطى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريشٍ وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصارِ منها شيء وجد هذا الحي من الأنصارِ في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إنَّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليكَ في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسَّمت في قومك وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصارِ منها شيء. قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟" قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرةِ، قال فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجالٌ من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردَّهم، فلمَّا اجتمعوا له أتاه سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحمد الله أثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "يا معشرَ الأنصارِ ما قاله بلغني عنكم وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم.. ألم آتكم ضلال فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم" قالوا بلى لله ورسوله المن والفضل ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟" قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله لله ولرسوله المن والفضل قال- صلى الله عليه وسلم- أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا مكذبًا فصدقناك ومخذولاً فنصرناك وطريدًا فأويناك وعائلاً فآسيناك.. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعةٍ من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاةِ والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسمًا وحظًا ثم انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا" السيرة النبوية ج5/ص 176/ 177 بتصرف يسير.
لقد اتبع المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في حل هذه القضية منهجًا غاية في الرقي والسمو والشفافية، ولا بد لنا من وقفات مع هذا المنهج الفريد لنتعلم كيف يُحل الخلاف مهما كان حجمه، فالموقف جد خطير أن يجد بعض الصحابة في أنفسهم من فعل للرسول- صلى الله عليه وسلم- وهم الذين آمنوا به وصدقوه وناصروه. ولكنها الطبيعة البشرية التي تعامل معها الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- بأحسن ما يكون. وسنذكر هنا بعض الأسس المستفادة من هذا الموقف لنتبعها عند حل خلافاتنا.
أولاً: الاستماع الدقيق للرأي الآخر وعدم تسفيهه أو الحكم عليه قبل سماعه:
فلقد استمع الرسول- صلى الله عليه وسلم- من سيدنا سعد بن عبادة القضية كاملة ثم اتخذ قراره بجمع الصحابة ليناقشهم فيما قالوا. فلا ينبغي على القائد أن يتخذ قراراتٍ من مصدر معلومات دون التأكد من صاحب القضية. إنها قضية التبين والتحقق. بالرغم من أن سيدنا سعد بن عبادة- رضي الله عنه- يُعد من أطراف القضية ومن أصحابها، ولكنه الدرس النبوي الكريم لوضع الأسس السليمة لحماية المجتمع. فهذا فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- فأين نحن منه- صلى الله عليه وسلم-. فهو يتخذ هذه الخطوات ليعلمنا ويُرشدنا ويرسم لنا خطوط النجاة. فلا بد من تقبل الرأي الآخر والتعامل معه باهتمام وعدم إهماله وذلك كبداية للحل.
ثانيًا: سعة صدر القيادة:
فلم يغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يصفهم بأي صفة تُنقص من أيمانهم أو حتى تشكك فيه ووضح بنفسه ما يمكن أن يجول بخاطر أي منهم "أما لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصُدقتم" فأية سعة صدر وأية عظمة هذه. إنها عظمة محمد- صلى الله عليه وسلم-. فلم نسمع أنها عدم ثقة في القيادة وقراراتها. إن الاختلاف في رأي أو قرار ما لا يعني عدم الثقة في القيادة مهما كان هذا الرأي، ما دام في دائرته الشرعية ولم يخرج عنها.
ثالثًا: التزام أدب الخطاب والرقي فيه:
حيث بدأ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بعرض ملخص للقضية من وجهة نظر الأنصار "يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم..." ثم ذكرهم بفضل الله عليهم "ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟!" ثم بدأ الحوار "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار.." فما دام الحوار بهذا الرقي فلا بد أن يكون الرد مناسبًا له "لله ورسوله المن والفضل" فالرسول- صلى الله عليه وسلم- بدأ بتذكيرهم بفضلهم وذلك لنزع ما قد يكون في صدورهم من بذور الخلاف. ثم يأتي دور إبراز الحقيقة وتجليتها لهم. فيكون الرد الطبيعي والمنطقي لهذه المقدمات "رضينا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًا".
إن التزام أدب الحوار في حل المشكلة سيقصر من وقت حلها وسيسرع في الحل الفوري لها. فلا مجالَ للصراخِ والصوت المرتفع. إنها نتاج العقيدة الراسخة في ذوات النفوس.
رابعًا: التذكير بالمسلمات كبداية للحل:
فعندما ذكرهم المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بفضل الله عليهم ثم بفضله- صلى الله عليه وسلم- عليهم، وبعد ذلك جهودهم في نصرة الله ورسوله، أظهر لهم الحقيقة، فكانت كل هذه الخطوات متدرجة للنفس لتقبل الحل وتنحي المجادلة العقيمة.. فلنبدأ أولى خطوات الحل بالمسلمات ونقاط الاتفاق ثم نقاط الاختلاف، حتى نجد أرضيةً مشتركةً للتفاهم على الحل.
خامسًا: التذكير بالفضل وعدم نسيانه:
فلنأثر قلوب إخواننا ببعض محاسنهم ومناقبهم في بداية الحل، حتى نهيئ النفوس لتقبل الحل ورسوخه في ذات الوقت. فإذا بدأنا بالسلبيات سواء عامة أو شخصية، لتوسعت دائرة الخلاف وتباعدت الرؤى.
سادسًا: سرعة الحل:
فلقد حدد الرسول- صلى الله عليه وسلم- موعدًا في الحال للاجتماع بهم ومناقشة الأمر معهم، وهذا ما ينبغي عمله تجاه أي مشكلة في بدايتها وعدم تمييعها أو الاستهانة بها. إنَّ التهاون في سرعة حل الخلاف في بدايته سيتسبب في خلل قد يكون أكبر من الخلاف ذاته. أما سرعة اتخاذ خطوات الحل فستئد أية فرصة لتصعيد الخلاف.
سابعًا: الإيجابية والمصارحة من كل الأطراف:
فلا بد هنا من وقفة مع إيجابية سيدنا سعد بن عبادة عندما ذهب إلى المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في إيجابية رائعة لنقل الصورة بغرض الحل. فلا بد من إيجابية الجندي والقائد لسرعة الحل. كما في موقفه عندما سأله الرسول- صلى الله عليه وسلم- "فأين أنت من ذلك يا سعد" قال: "يا رسول الله ما أنا إلا من قومي" أية روعة وعظمة يُسطرها التاريخ بأحرفٍ من نور، فمن يجامل إذا لم يجامل الرسول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-؟ ولكن المسألة هنا ليست مجاملةً، إنها إيجابية وتحديد موقف ومصارحة ومكاشفة من الجندي لقائده. فلم يتردد الجندي بالبوح بما في أغوار نفسه، ولم يتردد القائد أو يجد في نفسه من سماع رأي الجندي واعتباره وعدم إهماله، أو الضغط عليه لتغيره. ففي سرعة تبليغ سيدنا سعد للنبي- صلى الله عليه وسلم- بالوضع لدرس للجندي حيال المسئولية العظيمة الملقاة على عاتقه لحماية الصف ووحدته وضرورة تقديره للموقف وسرعة إبلاغه لقائده وفي ذات الوقت عليه إيضاح رأيه دون أي وجل أو تردد.
فهذه موقف من بعض المواقف من السيرة النبوية المطهرة لعلنا نتأسى ونقتدي بها في حياتنا، ونتبع منهج النبي- صلى الله عليه وسلم- في معالجته لبعض الخلافات التي نعدها الآن- من منظورنا- جسيمة وربما مستعصية على الحل. فإذا بالمصطفى- صلى الله عليه وسلم- يتعامل معها بشفافية وروح المربي الملهم، ويرسخ فينا بعض الجوانب التي يجب علينا اتباعها في مختلف جوانب حياتنا.