بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث في كل أمة رسولًا يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة غيره، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾ [النحل: 36]، أحمده - سبحانه - أن هدانا لعبادته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وأسمائه وصفاته وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ رسالته، وأدى أمانته، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله - تعالى - بفعل ما أمركم به في كتابه وعلى لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، فجعل تبارك وتعالى اتباع الرسول من محبة الله تعالى، ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فطاعة الرسول بعد موته التمسك بسنته وتقديمها على سنن غيره واعتقاد صحة أقواله وأفعاله وأنه رسول رب العالمين أرسله رحمة للعالمين، فمن شك في شيء مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - أو اعتقد أنه رسول الله لأناس مخصوصين، ولم تشمل رسالته جميع الثقلين (الجن والإنس) وأنه يجوز الأخذ بتشريع من سبقه من الأنبياء فيما يخالف ما جاء به من الأحكام، فإنه لم يشهد أن محمدًا رسول الله حقيقة، لأن الله أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158] فلا يسع أحدًا من الناس بعد بعثته إلا اتباعه، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم -عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى - عليه السلام - كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني)[1]. فلو أن شيئا من الشرائع يجوز التمسك به بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - لوسع موسى أن يأخذ بشريعته التي بعث بها ولم يتابع محمدًا - صلى الله عليه وسلم -في شريعته، فمقتضى هذا أن من لم يحكم شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن بها ويعتقد صحتها فإنه يشهد أن محمدًا رسول الله حقيقة لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)[2] أي مردود عليه ولم يقبل منه، وأقسم الله تبارك بنفسه المقدسة بنفي الإيمان عمن لا يحكم شريعة الإسلام - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء من الخلاف فقال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
فاشترط للإيمان ثلاثة شروط: أولها تحكيمه - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يتنازع فيه والثاني: الرضا بحكمه وعدم التحرج منه أو عدم الرضى به، والثالث: أن يسلموا لهذا الحكم ولا يطلبوا غيره وتحكيم شريعته - صلى الله عليه وسلم - بعد موته مقتضى تحكيمه في حياته لأن الله- تعالى- قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
أي ردوه إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فالرد إليهما رد إلى الله ورسوله وقوله تعالى (في شيء) يشمل القليل والكثير ويشمل التنازع في أمور الدين والدنيا... بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليطاع ويتبع، أنقذ به عباده من ظلمات الجهل إلى نور الهدى والعلم، فمنهم الطائع الممتثل ومنهم من امتنع، أحمده- سبحانه- وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين والمرسلين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على هذا الدين أما بعد:
فيقول الله - تعالى- منبِّهًا عباده إلى ما فيه رشدهم وفلاحهم ومغفرة ذنوبهم: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31] أي قل يا محمد لجميع الخلق المدعي منهم محبتك أن محبتي منوطة بمتابعتك، فمن زعم محبتي وهو لم يقبل ما جئت به لم ينفعه ذلك حتى يتابعك ويؤمن بما جئت به من عندي إيمانًا صادقًا، ويأتي ما أمرت به وينتهي عما نهيت عنه قولًا وعملًا واعتقادًا، فمن ادعى متابعتك ولم يمتثل بما جئت به من عندي فهو في الحقيقة لم يتبعك، وكل من ادعى محبتي ولم يتابعك فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع الذي جئت به من عندي في جميع أقواله وأفعاله ومعاملاته، قال الحسن البصري - رحمه الله-: زعم قوم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وروى ابن كثير - رحمه الله - عند هذه الآية عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله)[3].
عباد الله، إن السعادة كل السعادة في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - و امتثال أوامره أمرًا ونهيًا، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر بصدق وإخلاص، وأن يبدأ الإنسان بنفسه ومن هم تحت يده ويقيمهم على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ينصح لعموم المسلمين ويقبل النصيحة ممن ينصحه ولا يأخذه الغرور بنفسه فإن ذلك من أخلاق المتكبرين، فإن المرء إذا لم يقبل النصيحة يكون راضيًا عن نفسه وإذا رضي الإنسان عن نفسه عميت عنه عيوبها فلا يؤثر فيها نصح ولا ينفع معها إرشاد، وإذا أراد الله بعبده خيرًا بصره بعيوب نفسه فأصلحها واتهمها دائمًا بالنقص وطالبها بالكمال حتى يلحق بالنفوس الزكية والأرواح الطاهرة، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "رحم الله امرأ أهدى إلي عيوب نفسي" لأن النفس كما وصفها الله أمارة بالسوء وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء به - رضي الله عنه - بقوله: (اقتدوا بالذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر)[4] ويقول (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور) ومن سنته - صلى الله عليه وسلم - المحافظة على الصلاة في الجماعة، وكان أصحابه - رضي الله عنهم - يحافظون عليها أشد المحافظة كما يعدون تركها كفرًا يُخرج من الملة، كما قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (إن الله شرع لكم سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في الجماعة فلو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض وإنه ليؤتى بالرجل يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). فهذه سنته - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الصلاة ونحن - للأسف- نتخلف عن الجماعة لأدنى سبب، ونزعم متابعته - صلى الله عليه وسلم - فهذا الزعم قد لا يكون حقًا.
والحمد لله رب العالمين.