حديث : ( يا معشر الشباب من استطاع ...)
عَنْ عَلْقَمَةَ ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَبْدِ الله بِمِنىً، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ، فَقَامَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمٰن أَلا نُزُوِّجُكَ جَارِيَةٌ شَابَّةً، لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَىٰ مِنْ زَمَانِكَ. قَالَ فَقَالَ عَبْدُ الله: لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ الله : «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ». رواه البخاري ومسلم .
ألفاظ الحديث :
( يا معشر الشباب) : المعشر جماعة يشملهم وصف ما .
والشباب : جمع شاب ويجمع أيضا على شببة وشبان بضم أوله والتثقيل، والشباب عند بعض أهل العلم هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة. وقيل شغلى الأربعين .
الباءة: فيها أربع لغات :
الباءة بالمد والهاء .
والثانية الباة بلا مد .
والثالثة الباء بالمد بلا هاء .
والرابعة الباهة بهاءين بلا مد .
وأصلها في اللغة الجماع مشتقة من المباءة وهي المنزل.
ثم قيل لعقد النكاح باءة لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً،
وخص الشباب لأنهم خص الشباب بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ .
المراد بالباءة :
اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع ، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنة وهي مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالباً.
والقول الثاني : أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطعها فليصم ليدفع شهوته .
الوجاء : بكسر الواو وبالمد وهو رض الخصيتين، والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المنى كما يفعله الوجاء.
هل الأفضل النكاح أم تركه :
ينقسم الناس في ذلك على اقسام :
· قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح .
· وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له.
· وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان.
· وقسم يجد المؤن ولا تتوق، فمذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أن ترك النكاح لهذا والتخلي للعبادة أفضل، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أن النكاح له أفضل والله أعلم.
وهناك تقسيم آخر : وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري - وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري قال: فالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به . قال والتحريم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه .
والكراهة في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة من عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدت الكراهة، وقيل الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج .
والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصودا من كثر شهوة وإعفاف نفس وتحصين فرج ونحو ذلك،
والإباحة فيما انتفت الدواعي والموانع
قال عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله صلى الله عليه وسلم ”فإني مكاثر بكم ” ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا ينسل ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت .
فوائد من الحديث :
1. قوله: ( ان عثمان بن عفان قال لعبد الله بن مسعود: ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك) فيه استحباب عرض الصاحب هذا على صاحبه الذي ليست له زوجة بهذه الصفة وهو صالح لزواجها .
2. وفيه استحباب نكاح الشابة لأنها المحصلة لمقاصد النكاح ، فإنها ألذ استمتاعاً وأطيب نكهة وأرغب في الاستمتاع الذي هو مقصود النكاح وأحسن عشرة وأفكه محادثة وأجمل منظراً وألين ملمساً، وأقرب إلى أن يعودها زوجها الأخلاق التي يرتضيها.
3. قوله : ( تذكرك بعض ما مضى من زمانك ) يؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس.
4. قوله: (ان عثمان دعا ابن مسعود واستخلاه فقال له) هذا الكلام دليل على استحباب الإسرار بمثل هذا، فإنه مما يستحيـى من ذكره بين الناس.
5. قوله: ( ألا نزوجك جارية بكراً) دليل على استحباب البكر وتفضيلها على الثيب.
قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ ) فيه بيان لفضيلة الصوم وإرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم ، لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه . ولسر جعله الله تعالى في الصوم فلا ينفع تقليل الطعام وحده من دون صوم.
7. قوله صلى الله عليه وسلم: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ ) فيه جواز استعمال العلاج لقطع الشهوة كما استدل به الخطابي .
ولكن ينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالة لأنه قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقه .
وعند الشافعية ليس له ذلك والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاه فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلا .
8. وفيه الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل ممكن وعدم التكليف بغير المستطاع .
9. ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تتقدم على أحكام الشرع بل هي دائرة معها،
10. قوله صلى الله عليه وسلم : ” فإنه له وجاء ” استنبط القرافي من هذا أن التشريك في العبادة لا يقدح فيها بخلاف الرياء، لأنه أمر بالصوم الذي هو قربة وهو بهذا القصد صحيح مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه لتحصيل غض البصر وكف الفرج عن الوقوع في المحرم . ا هـ
قال ابن حجر " فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى فهو كذلك وليس محل النزاع، وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح فليس في الحديث ما يساعده "
وفيه أنه لا يتكلف للنكاح بغير الممكن كالاستدانة.
12. وفيه : تحريم الاستمناء كما استدل به بعض المالكية ؛ لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحا لأرشد إليه .
هذا ما تيسر جمعه والله أعلم .
للاستزادة يراجع :
فتح الباري ، شرح النووي ، تحفة الأحوذي ، عون المعبود ، سبل السلام ، وغيرها من شروحات الحديث .